الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
قال ابن المتوّج: هذا الجامع بسفح الرصد عمره الأمير عز الدين أيبك بن عبد الله المعروف بالأفرم أمير جاندار الملكيّ الصالحيّ النجميّ في شهور سنة ثلاث وستين وستمائة لما عمر المنظرة هناك وعمر بجوارها رباطًا للفقراء وقرّرهم عدّة تنعقد بهم الجمعة: وقرّر إقامتهم فيه ليلًا ونهارًا وقرّر كفايتهم وإعانتهم على الإقامة وعمر لهم هذا الجامع يستغنون به عن السعي إلى غيره وذكر أن الأفرم أيضًا عمر مسجدًا بجسر الشعيبية في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة جامعًا هدم فيه عدّة مساجد. الجامع بمنشأة المهرانيّ قال ابن المتوّج: والسبب في عمارة هذا الجامع أن القاضي الفاضل كان له بستان عظيم فيما بين ميدان اللوق وبستان الخشاب الذي أكله البحر وكان يمير مصر والقاهرة من ثماره أعنابه ولم تزل الباعة ينادون على العنب رحم الله الفاضل يا عنب إلى مدّة سنين عديدة بعد أن أكله البحر وكان قد عمر إلى جانبه جامعًا وبنى حوله فسميت بمنشأة الفاضل وكان خطيبه أخا الفقيه موفق الدين بن المهدويّ الديباجيّ العثماني وكان قد عمر بجواره دارًا وبستانًا وغرس فيه أشجارًا حسنة ودفع إليه فيه ألف دينار مصرية في أوّل الدولة الظاهرية وكان الصرف قد بلغ في ذلك الوقت كل دينار ثمانية وعشرين درهمًا ونصف درهم نقرة فاستولى البحر على الجامع والحار والمنشأة وقطع جميع ذلك حتى لم يبق له أثر وكان خطيبه موفق الدين يسكن بجوار الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا ويتردّد إليه وإلى والده محيي الدين فوقف وضرع إليهما وقال: أكون غلام هذا الباب ويخرب جامعي فرحمه الصاحب وقال: السمع والطاعة يدبر الله ثم فكر في هذه البقعة التي فيها هذا الجامع الآن وكانت تُعرف بالكوم الأحمر مرصدة لعمل أقمنة الطوب الآجرية سميت بالكوم الأحمر وكان الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن محمد بن حنا قد عمر منظرة قبالة هذا الكوم وهي التي صارت دار ابن صاحب الموصل وكان فخر الدين كثير الإقامة فيها مدّة الأيام المعزية فقلق من دخان الأقمنة التي على الكوم الأحمر وشكا ذلك لوالده ولصهره الوزير شرف الدين هبة اللّه بن صاعد الفائزيّ فأمرا بتقويمه فقوّم ما بين بستان الحليّ وبحر النيل وابتاعه الصاحب بهاء الدين فلما مات والده فخر الدين وتحدّث مع الملك الظاهر بيبرس في عمارة جامع هناك ملّكه هذه القطعة من الأرض فعمر السلطان بها هذا الجامع ووقف عليه بقية هذه الأرض المذكورة في شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وستمائة وجعل النظر فيه لأولاده وذريته ثم من بعدهم لقاضي القضاة الحنفيّ وأوّل من خطب فيه الفقيه موفق الدين محمد بن أبي بكر المهدويّ العثمانيّ الديباجيّ إلى أن توفي يوم الأربعاء ثالث عشر شوّال سنة خمس وثمانين وستمائة وقد تعطلت إقامة الجمعة من هذا الجامع لخراب ما حوله وقلة الساكنين هناك بعد أن كانت تلك الخطة في غاية العمارة وكان صاحبنا شمس الدين محمد بن الصاحب قد عزم على نقل هذا الجامع من مكانه فاخترمته المنية قبل ذلك.
قال ابن المتوّج: هذا الجامع بدير الطين في الجانب الشرقيّ عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين ولد الصاحب بهاء الدين المشهور بابن حنا في المحرّم سنة اثنتين وسبعين وستمائة وذلك أنه لما عمر بستان المعشوق ومناظره وكثرت إقامته بها وبعد عليه الجامع وكان جامع دير الطين ضيقًا لا يسع الناس فعمر هذا الجامع وعمر فوقه طبقة يصلي فيها ويعتكف إذا شاء ويخلو بنفسه فيها. وكان ماء النيل في زمنه يصل إلى جدار هذا الجامع وولى خطابته للفقيه جمال الدين محمد ابن الماشطة ومنعه من لبس السواد لأداء الخطبة فاستمرّ إلى حين وفاته في عاشر رجب سنة تسع وسبعمائة وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة سابع صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقد ذكرت ترجمة الصاحب تاج الدين عند ذكر رباط الآثار من هذا الكتاب. محمد بن عليّ بن محمد بن سليم بن حنا: أبو عبد اللّه الوزير الصاحب فخر الدين بن الوزير الصاحب بهاء الدين ولد في سنة اثنتين وعشرين وستمائة وتزوّج بابنة الوزير الصاحب شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزيّ وناب عن والده في الوزارة وولي ديوان الأحباس ووزارة الصحبة في أيام الظاهر بيبرس وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق وحدّث وله شعر جيد ودرس بمدرسة أبيه الصاحب بهاء الدين التي كانت في زقاق القناديل بمصر وكان محبًالأهل الخير والصلاح مؤثرًا لهم متفقدًا لأحوالهم وعمر رباطًا حسنًابالقرافة الكبرى رتب فيه جماعة من الفقراء ومن غريب ما يتعظ به الأريب أن الوزير الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير الني كان بنو حنا يعادونه وعنه أخذوا الوزارة مات في ثالث عشر ربيع الآخر سنة ثمان وستين وستمائة بالسجن فأخرج كما تخرج الأموات الطرحاء على الطرقات من الغرباء ولم يشيع جنازته أحد من الناس مراعاة للصاحب بن حنا وكان فخر الدين هذا يتنزه في أيام الربيع بمنية القائد وقد نصبت له الخيام وأقيمت المطابخ وبين يديه المطربون فدخل عليه البشير بموت الوزير يعقوب بن الزبير وأنه أخرج إلى المقابر من غير أن يشيع جنازته أحد من الناس فسرّ بذلك ولم يتمالك نفسه وأمر المطربين فغنوه ثم قام على رجليه ورقص هو وسائر من حضره وأظهر من الفرح والخلاعة ما خرج به عن الحدّ وخلع على البشير بموت المذكور خلعًا سنية فلم يمض على ذلك سوى أقلّ من أربعة أشهر ومات في حادي عشري شعبان من السنة المذكورة ففجع به أبوه وكانت له جنازة عظيمة ولما دُلّي في لحده قام شرف الدين محمد بن سعيد البوصيريّ صاحب البرعة في ذلك الجمع الموفور بتربة ابن حنا من القرافة وأنشد: لم تزل عوننا على الدهرِ حتّى غلبتنا يد ُالمنونِ عليكا أنت أحسنتَ في الحياة إلينا أحسنَ اللَّهُ في المماتِ إليكا فتباكى الناس وكان لها محل كبير ممن حضر رحمة الله عليهم أجمعين. وفي هذا الجامع يقول السراج الورّاق: بنيتُمْ على تقوى من اللّه مسجدا وخير مباني العابدين المساجدُ فقل في طرازِ معلم فوقَ بركةِ على حسنها الزاهي لها البحرحاسدُ لها حللٌ حسنى ولَكنْ طرازها من الجامع المعمور باللّه واحدُ هو الجامع الإحسانُ والحسنُ الذي أقرّ له زيد وعمرو وخالدُ وقد صافحت شهبُ الدجى شرفاتُهُ فما هي بين الشهبِ إلاّ فراقدُ وقد أرشدَ الضلال عالي مناره فلا حائر عنه ولا عنه حائدُ ونالتْ نواقيسُ الدياراتِ وجمة وخوف فلم يمدد إليهن ساعدُ فتبكى عليهن البطاريقُ في الدجى وهن لديهم ملقيات كواسدُ بذا قضت الأيامُ ما بين أهلها مصائبُ قوم عندَ قوم فوائد هذا الجامع خارج القاهرة وكان موضعه ميدانًا فأنشأه الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ جامعًا. قال جامع السيرة الظاهرية: وفي ربيع الآخر يعني سنة خمس وستين وستمائة اهتم السلطان بعمارة جامع بالحسينية وسير الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا وجماعة من المهندسين لكشف مكان يليق أن يعمل جامعًا فتوجهوا لذلك واتفقوا على مناخ الجمال السلطانية. فقال السلطان لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال وأولى ما جعلته ميداني الذي ألعب فيه بالكرة وهو نزهتي فلما كان يوم الخميس ثامن شهر ربيع الاَخر ركب السلطان وصحبته خواصه والوزير الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا والقضاة ونزل إلى ميدان قراقوش وتحدّث في أمره وقاسه ورتب أموره وأمور بنائه ورسم بأن يكون بقية الميدان وقفًا على الجامع يحكر ورسم بين يديه هيئة الجامع وأشار أن يكون بابه مثل باب المدرسة الظاهرية وأن يكون على محرابه قبة على قد رقبة الشافعيّ رحمة اللّه عليه وكتب في وقته الكتب إلى البلاد بإحضار عمد الرخام من سائر البلاد وكتب بإحضار الجمال والجواميس والأبقار والدواب من سائر الولايات وكتب بإحضار الآلات من الحديد والأخشاب النقية برسم الأبواب والسقوف وغيرها ثم توجه لزيارة الشيخ الصالح خضر بالمكان الذي أنشأه له وصلى الظهر هناك ثم توجه إلى المدرسة بالقاهرة فدخلها والفقهاء والقرّاء على حالهم وجلس بينهم ثم تحدّث وقال: هذا مكان قد جعلته للّه عز وجلّ وخرجتُ عنه وقفًا لله إذا مت لا تدفنوني هنا. ولا تغيروا معالم هذا المكان فقد خرجت عنه لله تعالى. ثم قام من إيوان الحنفية وجلس بالمحراب في إيوان الشافعية وتحدّث وسمع القرآن والدعاء ورأى جميع الأماكن ودخل إلى قاعة ولده الملك السعيد المبنية قريبًامنها ثم ركب إلى قلعة الجبل وولى عدّة مشدّين على عمارة الجامع وكان إلى جانب الميدان قاعة ومنظرة عظيمة بناها السلطان الملك الظاهر فلما رسم ببناء الجامع طلبها الأمير سيف الدين قشتمر العجميّ من السلطان فقال: الأرض قد خرجتُ عنها لهذا الجامع فاستأجرها من ديوانه والبناء والأصناف وهبتك إياها وشرع في العمارة في منتصف جمادى الآخرة منها. وفي أوّل جمادى الآخرة سنة ست وستين وستمائة سار السلطان من ديار مصر يريد بلاد الشام فنزل على مدينة يافا وتسلمها من الفرنج بأمان في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة المذكور وسير أهلها فتفرقوا في البلاد وشرع في هدمها وقسم أبراجها على الأمراء فابتدأ في ذلك من ثاني عشريه وقاسوا شدّة في هدمها لحصانتها وقوّة بنائها لا سيما القلعة فإنها كانت حصينة عالية الإرتفاع ولها أساسات إلى الأرض الحقيقية وباشر السلطان الهدم بنفسه وبخواصه ومماليكه حتى غلمان البيوتات التي له وكان ابتداء هدم القلعة في سابع عشريه ونقضت من أعلاها ونظفت زلاقتها واستمر الأجناد في ذلك ليلًانهارًا وأخذ من أخشابها جملة ومن ألواح الرخام التي وجدت فيها ووسق منها مركبًا من المراكب التي وجدت في يافا وسيرها إلى القاهرة ورسم بأن يُعمل من ذلك الخشب مقصورة في الجامع الظاهريّ بالميدان من الحسينية والرخام يُعمل بالمحراب فاستعمل كذلك. ولما عاد السلطان إلى مصر في حادي عشري ذي الحجة منها وقد فتح في هذه السفرة يافا وطرابلس وإنطاكية وغيرها أقام إلى أن أهلت سنة سبع وستين وستمائة فلما كملت عمارة الجامع في شوّال منها ركب السلطان ونزل إلى الجامع وشاهده فراَه في غاية ما يكون من الحسن وأعجبه نجازه في أقرب وقت ومدّة مع علوّ الهمة فخلع على مباشريه وكان الذي تولى بناءه الصاحب بهاء الدين بن حنا والأمير علم الدين سنجر السروريّ متولى القاهرة وزار الشيخ خضرًا وعاد إلى قلعته وفي شوّال منها تمت عمارة الجامع الظاهريّ ورتب به خطيبًا حنفي المذهب ووقف عليه حكر ما بقي من أرض الميدان ونزل السلطان إليه ورتب أوقافه ونظر في أموره. بيبرس: الملك الظاهر ركن الدين البندقداريّ أحد المماليك البحرية الذين اختص بهم السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب وأسكنهم قلعة الروضة كان أوّلًا من مماليك الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري فلما سخط عليه الملك الصالح أخذ مماليكه ومنهم الأمير بيبرس هذا وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة وقدمه على طائفة من الجمدارية وما زال يترقى في الخدم إلى أن قتل المعز أيبك التركمانيّ الفارس أقطاي الجمدار في شعبان سنة اثنتين وخمسين وستمائة وكانت البحرية قد انحازت إليه فركبوا في نحو السبعمائة فلما ألقيت إليهم رأس أقطاي تفرقوا واتفقوا على الخروج إلى الشام وكانت أعيانهم يومئذٍ بيبرس البندقداريّ وقلاون الألفيّ وسنقر الأشقر وبيسرى وترامق وتنكز فساروا إلى الملك الناصر صاحب الشام. ولم يزل بيبرس ببلاد الشام إلى أن قتل المعز أيبك وقام من بعده ابنه المنصور عليّ وقبض عليه نائبه الأمير سيف الدين قطز وجلس على تخت المملكة وتلقب بالملك المظفر فقدم عليه بيبرس فأمّره المظفر قطز ولما خرج قطز إلى ملاقاة التتار وكان من نصرته عليهم ما كان رحل إلى دمشق فوشى إليه بأن الأمير بيبرس قد تنكر له وتغير عليه وأنه عازم على القيام بالحرب فأسرع قطز بالخروج من دمشق إلى جهة مصر وهومضمر لبيبرس السوء وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس فاستوحش من قطز وأخذ كلّ منهما يحترس من الآخر على نفسه وينتظر الفرصة فبادر بيبرس وواعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيديّ والأمير سيف الدين بيدغان الركنيّ المعروف بسم الموت والأمير سيف الدين بلبان الهارونيّ والأمير بدر الدين آنص الأصبهانيّ فلما قربوا في مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين انحرف قطز عن الدرب للصيد فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه طلب بيبرس منه امرأة من سبي التتار فأنعم عليه بها فتقدّم ليقبل يده وكانت إشارة بينه وبين أصحابه فعندما رأوا بيبرس قد فبض على يد السلطان المظفر قطز بادر الأمير بكتوت الجوكندار وضربه بسيف على عاتقه أبانه واختطفه الأمير آنص وألقاه عن فرسه إلى الأرض ورماه بهادر المغربيّ بسهم فقتله وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة ومضوا إلى الدهليز للمشورة فوقع الاتفاق على الأمير بيبرس فتقدّم إليه أقطاي المستعرب الجمدار المعروف بالأتابك وبايعه وحلف له ثم بقية الأمراء وتلقب بالملك الظاهر وذلك بمنزلة القصير. فلما تمت البيعة وحلف الأمراء كلهم قال له الأمير أقطاي المستعرب: يا خوند لايتم لك أمر إلاّ بعد دخولك إلى القاهرة وطلوعك إلى القلعة فركب من وقته ومعه الأمير قلاون والأمير بلبان الرشيديّ والأمير بيلبك الخازندار وجماعة يريدون قلعة الجبل فلقيهم في طريقهم الأمير عز الدين أيدمر الحلبيّ نائب الغيبة عن المظفر قطز وقد خرج لتلقيه فأخبروه بما جرى وحلفوه فتقدّمهم إلى القلعة ووقف على بابها حتى وصلوا في الليل فدخلوا إليها وكانت القاهرة قد زينت لقدوم السلطان الملك المظفر قطز وفرح الناس بكسر التتار وعود السلطان فما راعهم وقد طلع النهار إلاّ والمشّا عليّ ينادي معاشر الناس ترحموا على الملك المظفر وادعوا لسلطانكم الملك الظاهر بيبرس فدخل على الناس من ذلك غمّ شديد ووجل عظيم خوفًا من عود البحرية إلى ما كانوا عليه من الجور والفساد وظلم الناس. فأوّل ما بدأ به الظاهر أنه أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره وهو تصقيع الأملاك وتقويمها وأخذ زكاة ثمنها في كل سنة وجباية دينار من كلّ إنسان وأخذ ثلث الترك الأهلية فبلغ ذلك في السنة ستمائة ألف دينار. وكتب بذلك مسموحًا قُريء على المنابر في صبيحة دخوله إلى القلعة وهو يوم الأحد سادس عشر ذي القعدة المذكور وجلس بالإيوان وحلّف العساكر واستناب الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار بالديار المصرية واستقرّ الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكًا على عادته والأمير جمال الدين أقوش التجيبيّ استادارًا والأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحيّ أمير جاندار والأمير لاجين الدرفيل وبلبان الروميّ دوادارية والأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوري أميراخور على عادته وبهاء الدين علي بن حنا وزيرًا والأمير ركن الدين التاجي الركنيّ والأمير سيف الدين بكجريّ حجابًا ورسم بإحضار البحرية الذين تفرّقوا في البلاد بطالين وسير الكتب إلى الأقطار بما تجدد له من النعم ودعاهم إلى الطاعة فأذعنوا له وانقادوا إليه. وكان الأمير علم الدين سنجر الحلبي نائب دمشق لما قُتل قطز جمع الناس وحلفهم وتلقب بالملك المجاهد وثار علاء الدين الملقب بالملكُ السعيد بن صاحب الموصل في حلب وظلم أهلها وأخذ منهم خمسين ألف دينار فقام عليه جماعة ومقدّمهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزيّ وقبضوا عليه فسير الظاهر إلى لاجين بنيابة حلب. فلما دخلت سنة تسع وخمسين قبض الظاهر على جماعة من الأمراء المعزية منهم الأمير سنجر الغتميّ والأمير بهادر المعزي والشجاع بكتوت ووصل إلى السلطان الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسي من بغداد في تاسع رجب فتلقاه السلطان في عساكره وبالغ في إكرامه وأنزله بالقلعة وحضر سائر الأمراء والمقدّمين والقضاة وأهل العلم والمشايخ بقاعة الأعمدة من القلعة بين يدي أبي العباس فتأدّب السلطان الظاهر ولم يجلس على مرتبة ولا فوق كرسيّ وحضر العربان الذين قدموا من العراق وخادم من طواشية بغداد وشهدوا بأن العباس أحمد ولد الخليفة الظاهر بن الخليفة الناصر وشهد معهم بالاستفاضة الأمير جمال الدين يحيى نائب الحكم بمصر وعلم الدين بن رشيق وصدر الدين موهوب الجزريّ ونجيب الدين الحرّانيّ وسديد الزمنتيّ نائب الحكم بالقاهرة عند قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعيّ وأسجل على نفسه بثبوت نسب أبي العباس أحمد وهو قائم على قدميه ولُقِّب بالإمام المستنصر باللّه وبايعه الظاهر على كتاب الله وسنة نبيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها فلما تمت البيعة قلد المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر أمر البلاد الإسلامية وما سيفتحه اللّه على يديه من بلاد الكفار وبايع الناس المستنصر على طبقاتهم وكتب إلى الأطراف بأخذ البيعة له إقامة الخطبة باسمه على المنابر ونقشت السكة في ديار مصر باسمه واسم الملك الظاهر معًا. فلما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب خطب الخليفة بالناس في جامع القلعة وركب السلطان في يوم الإثنين رابع شعبان إلى خيمة ضربت له بالبستان الكبير ظاهر القاهرة وأفيضت عليه الخلع الخليفية وهي جبة سوداء وعمامة بنفسجية وطوق من ذهب وقلد بسيف عربيّ وجلس مجلسًا عامًا حضره الخليفة والوزير وسائر القضاة والأمراء والشهود وصعد القاضي فخر الدين بن لقمان كاتب السرّ منبرًا نصب له وقرأ تقليد السلطان المملكة وهو بخطه من إنشائه ثم ركب السلطان بالخلعة والطوق ودخل من باب النصر وشق القاهرة وقد زينت له وحمل الصاحب بهاء الدين بن حنا التقليد على رأسه قدّام السلطان والأمراء مشاة بين يديه وكان يومًا مشهودًا. وأخذ السلطان في تجهيز الخليفة ليسير إلى بغداد فرتب له الطواشي بهاء الدين صندلًا الصالحيّ شرابيًا والأمير سابق الدين بوزيا الصيرفي أتابكا والأمير جعفرًا أستادارًا والأمير فتح الدين بن الشهاب أحمد أميرجاندار والأمير ناصر الدين بن صيرم خازندار والأمير سيف الدين بلبان الشمسيّ وفارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموريّ دوادارية والقاضي كمال الدين محمد السنجاريّ وزيرًا وشرف الدين أبا حامد كاتبًا وعين له خزانة وسلاحخاناه ومماليك عدّتهم نحو الأربعين منهم سلاحدارية وجمدارية وزردكاشية ورمحدارية وجعل له طشطخاناه وفراشخاناه وشرابخاناه وإمامًا مؤذنًا وسائر أرباب الوظائف واستخدم له خمسمائة فارس وكتب لمن قدم معه من العراق بإقطاعات وأذن له في الركوب والحركة حيث اختار وحضر الملك الصالح اسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وأخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة وأخوهما المظفر فأكرمهم السلطان وأقرّهم على ما بأيديهم وكتب لهم تقاليد وجهزهم في خدمة الخليفة وسار الخليفة في سادس شوّال والسلطان في خدمته إلى دمشق فنزل السلطان في القلعة ونزل الخليفة في التربة الناصرية بجبل الصالحية وبلغت نفقة السلطان على الخليفة ألف ألف وستين ألف دينار وخرج من دمشق في ثالث عشر ذي القعدة ومعه الأمير بلبان الرشيدي والأمير سنقر الروميّ وطائفة من العسكر وأوصاهما السلطان أن يكونا في خدمة الخليفة حتى يصل إلى الفرات فإذا عبر الفرات أقاما بمن معهما من العسكر بالبرّ الغربيّ من جهات حلب لانتظار ما يتجدّد من أمر الخليفة بحيث إن احتاج إليهم ساروا إليه فسار إلى الرحبة وتركه أولاد صاحب الموصل وانصرفوا إلى بلادهم وسار إلى مشهد عليّ فوجد الإمام الحاكم بأمر الله قد جمع سبعمائة فارس من التركمان وهو على عانة ففارقه التركمان وصار الحاكم إلى المستنصر طائعًا له فأكرمه وأنزله معه وسارا إلى عانة ورحلا إلى الحديثة وخرجا منها إلى هيت وكانت له حروب مع التتار في ثالث محرّم سنة ستين وستمائة قتل فيها أكثر أصحابه وفرّ الحاكم وجماعة من الأجناد وفقد المستنصر فلم يوقف له على خبر فحضر الحاكم إلى قلعة الجبل وبايعه السلطان والناس واستمرّ بديار مصر في مناظر الكبش وهو جدّ الخلفاء الموجودين اليوم. وفي سنة ست وستين قرّر الظاهر بديار مصر أربعة قضاة وهم شافعيّ ومالكي وحنفي وحنبليّ فاستمرّ الأمر على ذلك إلى اليوم وحدث غلاء شديد بمصر وعدمت الغلة فجمع السلطان الفقراء وعدّهم وأخذ لنفسه خمسمائة فقير يمونهم ولابنه السعيد بركة خان خمسمائة فقير وللنائب بيلبك الخازندار ثلاثمائة فقير وفرّق الباقي على سائر الأمراء ورسم لكلّ إنسان في اليوم برطلي خبز فلم ير بعد ذلك في البلد أحد من الفقراء يسأل. وفي ثالث شوّال سنة اثنتين وستين أركب السلطان ابنه السعيد بركة بشعار السلطنة ومشى قدّامه وشق القاهرة والكل مشاة بين يديه من باب النصر إلى قلعة الجبل وزينت البلد وفيها رتب السلطان لعب القبق بميدان العيد خارج باب النصر وختن الملك السعيد ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبياَ من أولاد الناس سوى أولاد الأمراء والأجناد وأمر لكلّ صغير منهم بكسوة على قدره ومائة درهم ورأس من الغنم فكان مهمًا عظيمًا وأبطل ضمان المزر وجهاته وأمر بحرق النصارى في سنة ثلاث وستين فتشفع فيهم على أن يحملوا خمسين ألف دينار فتركوا. وفي سنة أربع وستين افتتح قلعة صفد وجهز العساكر إلى سيس ومقدّمهم الأمير قلاون الألفيّ فحصر مدينة ابناس وعدّه قلاع. وفي سنة خمس وستين أبطل ضمان الحشيش من ديار مصر وفتح يافا والشقيف وإنطاكية. وفي سنة سبع وستين حج فسار على غزة إلى الكرك ومنها إلى المدينة النبوية وغسل الكعبة بماء الورد بيده ورجع إلى دمشق فأراق جميع الخمور وقدم إلى مصر في سنة ثمان وستين. وفي سنة سبعين خرج إلى دمشق. وفي سنة إحدى وسبعين خرج من دمشق سائقًا إلى مصر ومعه بيسرى وأقوش الروميّ وجرسك الخازندار وسنقر الألفيّ فوصل إلى قلعة الجبل وعاد إلى دمشق فكانت مدّة غيبته أحد عشر يومًا ولم يعلم بغيبته من في دمشق حتى حضر ثم خرج سائقًا من دمشق يريد كبس التتار فخاض الفرات وقدّامه قلاون وبيسرى وأوقع بالتتار على حين غفلة وقتل منهم شيئًا كثيرًا وساق خلفهم بيسرى إلى سروج وتسلم السلطان البيرة. ووقع بمصر في سنة اثنتين وسبعين وباء هلك به خلق كثير. وفي سنة ثلاث وسبعين غزا السلطان سيس وافتتح قلاعًا عديدة. وفي سنة أربع وسبعين تزوّج السعيد بن السلطان بابنة الأمير قلاون وخرج العسكر إلى بلاد النوبة فواقع ملكهم وقتل منهم كثيرًا وفرّ باقيهم. وفي سنة خمس وسبعين سار السلطان لحرب التتار فواقعهم على الأبلستين وقد انضم إليهم الروم فانهزموا وقُتل منهم كثير وتسلم السلطان قيسارية ونزل فيها بدار السلطان ثم خرج إلى دمشق فوعك بها من إسهال وحمى مات منها يوم الخميس تاسع عشري محرّم سنة ست وسبعين وستمائة وعمره نحو من سبع وخمسين سنة ومدّة ملكه سبع عشرة سنة وشهران. وكان ملكًا جليلًا عسوفًا عجولًا كثير المصادرات لرعيته ودواوينه سريع الحركة فارسًا مقدامًا وترك من الذكور ثلاثة: السعيد محمد بركة خان وملك بعده وسلامش وملك أيضًا والمسعود خضر. ومن البنات سبع بنات وكان طويلًا مليح الشكل. وفتح اللّه على يديه مما كان مع الفرنج قيسارية وأرسوف وصفد وطبرية ويافا والشقيف وإنطاكية وبقراص والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكا وصافيتا ومرقية وحلبا. وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وانطرسوس وأخذ من صاحب سيس دريساك ودركوس وتلميش وكفردين ورعبان ومرزبان وكينوك وأدنة والمصيصة. وصار إليه من البلاد التي كانت مع المسلمين دمشق وبعلبك وعجلون وبصرى وصرخد والصلت وحمص وتدمر والرحبة وتل ناشر وصهيون وبلاطيس وقلعة الكهف والقدموس والعليقة والخوابى والرصافة ومصياف والقليعة والكرك والشوبك. وفتح بلاد النوبة وبرقة وعمر الحرم النبويّ وقبة الصخرة ببيت المقدس وزاد في أوقاف الخليل عليه السلام وعمر قناطر شبرامنت بالجيزية وسور الإسكندرية ومنار رشيد وردم فم بحر دمياط ووعر طريقه وعمر الشواني وعمر قلعة دمشق وقلعة الصبيبة وقلعة بعلبك وقلعة الصلت وقلعة صرخد وقلعة عجلون وقلعة بصرى وقلعة شيزر وقلعة حمص وعمر المدرسة بين القصرين بالقاهرة والجامع الكبير بالحسينية خارج القاهرة وحفر خليج الإسكندرية القديم وباشره بنفسه وعمر هناك قرية سماها الظاهرية وحفر بحر أشموم طناح على يد الأمير بلبان الرشيديّ وجدّد الجامع الأزهر بالقاهرة وأعاد إليه الخطبة وعمر بلد السعيدية من الشرقية بديار مصر وعمر القصر الأبلق بدمشق وغير ذلك. ولما مات كتم موته الأمير بدر الدين بيلبك الخازندار عن العسكر وجعله في تابوت وعلقه ببيت من قلعة دمشق وأظهر أنه مريض ورتب الأطباء يحضرون على العادة وأخذ العساكر والخزائن ومعه محفة محمولة في الموكب محترمة وأوهم الناس أن السلطان فيها وهو مريض فلم يجسر أحد أن يتفوّه بموت السلطان وسار إلى أن وصل إلى قلعة الجبل بمصر وأشيع موته رحمه اللّه تعالى. جامع ابن اللبان هذا الجامع بجسر الشعيبية المعروف بجسر الأفرم عمره الأمير عز الدين أيبك الأفرم في سنة ثلاث وتسعين وستمائة. قال ابن المتوّج: وكان سبب عمارته أنه لما كثرت الخلائق في خطة هذا الجامع قصد الأفرم أن يجعل خطبة في المسجد المعروف بمسجد الجلالة الذي ببركة الشقاف ظاهر سور الفسطاط المستجدّ وأن يزيد فيه ويعمره كما يختار فمنعه الفقيه مؤتمن الدين الحارث بن مسكين وردّه عن غرضه فحسن له الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين عليّ بن حنا عمارة هذا الجامع في هذه البقعة لقربه منه فعمره في شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة لكنه هُدم بسببه عدّة مساجد وعرف هذا الجامع في زمننا هذا بالشيخ محمد بن اللبان الشافعيّ لإقامته فيه وأدركناه عامرًاوقد انقطعت منه في هذه المحن إقامة الجمعة والجماعة لخراب ما حوله وبعد البحر عنه. الجامع الطيبرسيّ هذا الجامع عمره الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش بشاطيء النيل في أرض بستان الخشاب وعمر بجواره خانقاه في جمادى الأولى سنة سبع وسبعمائة وكان من أحسن منتزهات مصر وأعمرها وقد خرب ما حوله من الحوادث والمحن التي بعد سنة ست وثمانمائة بعدما كانت العمارة منه متصلة إلى الجامع الجديد بمصر ومنه إلى الجامع الخطيريّ ببولاق ويركب الناس المراكب للفرجة من هذا الجامع إلى الجامعين المذكورين مصعدين ومنحدرين في النيل ويجتمع بهذا الجامع الناس للنزهة فتمرّ به أوقات ومسرّات لا يمكن وصفها وقد خرب هذا الجامع وأقفر من المساكن وصار مخوفًا بعدما كان ملهى وملعبًا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولطيبرس هذا المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.
هذا الجامع بشاطئ النيل من ساحل مصر الجديد عمره القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش باسم السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون وكان الشروع فيه يوم التاسع من المحرم سنة إحدى عشرة وسبعمائة وانتهت عمارته في ثامن صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وأقيم في خطابته قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة الشافعيّ ورتب في إمامته الفقيه تاج الدين بن مرهف فأوّل ما صلى فيه صلاة الظهر من يوم الخميس ثامن صفر المذكور وأقيمت فيه الجمعة يوم الجمعة تاسع صفر وخطب عن قاضي القضاة بدر الدين ابنه جمال الدين ولهذا الجامع أربعة أبواب وفيه مائة وسبعة وثلاثون عمودًا منها عشرة من صوّان في غاية السمك والطول وجملة ذرعه أحد عشر ألف ذراع وخمسمائة ذراع بذراع العمل من ذلك طوله من قبليه إلى بحريه مائة وعشرون ذراعًا وعرضه من شرقيه إلى غربيه مائة ذراع وفيه ستة عشر شباكًا من حديد وهو يشرف من قبليه على بستان العالمة وينظر من بحريه بحر النيل وكان موضع هذا الجامع في القديم غامرًا بماء النيل ثم انحسر عنه النيل وصار رملة في زمن الملك الصالح نجم الدين أيوب يمرّغ الناس فيها دوابهم أيام احتراق النيل فلما عمر الملك الصالح قلعة الروضة وحفر البحر طرح الرمل في هذا الموضع فشرع الناس في العمارة على الساحل وكان موضع هذا الجامع شونة وقد ذكر خبر ذلك عند ذكر الساحل الجديد بمصر فانظره وما برح هذا الجامع من أحسن منتزهات مصر إلى أن خرب ما حوله وفيه إلى الآن بقية وهو عامر. محمد بن قلاون: السلطان الملك الناصر أبو الفتح ناصر الدين بن الملك المنصور كان يُلفب بحرفوش وأمّه أشلون ابنة شنكاي ولد يوم السبت النصف من المحرّم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من ديار مصر وولى الملك ثلاث مرّات الأولى بعد مقتل أخيه الملك الأشرف خليل بن قلاون في رابع عشر المحرّم سنة ثلاث وتسعين وستمائة وعمره تسع سنين تنقص يومًا واحدًا فأقام في الملك سنة إلاّ ثلاثة أيام وخلع بمملوك أبيه كتبغا المنصوريّ يوم الأربعاء حادي عشر المحرّم سنة أربع وتسعين وستمائة وأعيد إلى المملكة ثانيًا بعد قتل الملك المنصور لاجين يوم الإثنين سادس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة فأقام عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يومًا وعزل نفسه وسار إلى الكرك فوليَ الملك من بعده الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وتلقب بالملك المظفر في يوم السبت ثالث عشري شوّال سنة ثمان وسبعمائة ثم حضر من الكرك إلى الشام وجمع العساكر فخامر على بيبرس معظم جيش مصر وانحل أمره فترك الملك في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رمضان سنة تسع وسبعمائة وطلع الملك الناصر إلى قلعة الجبل يوم عيد الفطر من السنة المذكورة واستولى على ممالك مصر والشام والحجاز فأقام في الملك من غير منازع له فيه إلى أن مات بقلعة الجبل في ليلة الخميس الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وعمره سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام وله في ولايته الثالثة مدّة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وعشرين يومًا وجملة إقامته في الملك عن المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام. ولما مات ترك ليلته ومن الغد حتى تم الأمر لابنه أبي بكر المنصور في يوم الخميس المذكور ثم أخذ في جهازه فوضع في محفة بعد العشاء الاَخرة بساعة وحمل على بغلين وأنزل من القلعة إلى الإصطبل السلطاني وسار به الأمير ركن الدين بيبرس الأحمديّ أميرجاندار والأمير نجم الدين أيوب والي القاهرة والأمير قطلوبغا الذهبيّ وعلم دار خوطا جار الدوادار وعبروا به إلى القاهرة من باب النصر وقد غلقت الحوانيت كلها ومُنع الناس من الوقوف للنظر إليه وقدّام المحفة شمعة واحدة في يد علمدار فلما دخلوا به من باب النصر كان قدامه مسرجة في يد شاب وشمعة واحدة وعبروا به المدرسة المنصورية بين القصرين ليدفن عند أبيه الملك المنصور قلاون وكان الأمير علم الدين سنجر الجاوليّ ناظر المارستان قد جلس ومعه القضاة الأربعة وشيخ الشيوخ ركن الدين شيخ خانقاه سرياقوس والشيخ ركن الدين عمر ابن الشيخ إبراهيم الجعبريّ فحطت المحفة وأخرج منها فوضع بجانب الفسقية التي بالقبة وأمر ابن أبي الظاهر مغسّل الأموات بتغسيله فقال: هذا ملك ولا أنفرد بتغسيله إلاّ أن يقوم أحد منكم ويجرده على الدكه فإني أخشى أن يقال كان معه فص أو خاتم أو في عنقه خرزة فقام قطلوبغا الذهبيّ وعلمدار وجرّداه مع الغاسل من ثيابه فكان على رأسه قبع أبيض من قطن ثيابه وعلى بدنه بغلطاق صدر أبيض وسراويل فنُزعا وترك القميص عليه وغسل به ووجد في رجله الموجوعة بخشان مفتوحان فغُسل من فوق القميص وكفن في نصفية وعُملت له أخرى طرّاحة ومخدّة ووضع في تابوت من خشب وصلى عليه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة الشافعيّ بمن حضر وأنزل إلى قبر أبيه في سحلية من خشب قد ربطت بحبل ونزل معه إلى القبر الغاسل والأمير سنجر الجاوليّ ودفع إلى الغاسل ثلاثمائة درهم فباع ما نابه من الثياب بثلاثة عشر درهمًا سوى القبع فإنه فقد وذكر الغاسل أنه كان محنكًا بخرقة معقدة بثلاث عقد فسبحان من لا يحول ولا يزول هذا ملك أعظم المعمور من الأرض مات غريبًا وغُسل طريحًا ودُفن وحيدًا إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب. وفي ليلة السبت: قرأ القرّاء عند القبر بالقبة القرآن وحضر بعض الأمراء وَترَكَ من الأولاد اثني عشر ولدًا ذكرًا وهم: أحمد وهو أسنهم وكان بالكرك وأبو بكر وتسلطن من بعده وشقيقه رمضان ويوسف وإسماعيل وتسلطن أيضًا وشعبان وتسلطن وحسين وكجك وتسلطن وأميرحاج وحسن ويدعى قماري وتسلطن وصالح وتسلطن ومحمد. وترك من البنات ثمانيًا متزوّجات سوى من خلف من الصغار وخلف من الزوجات جاريته طغاي وإمّة الأمير تنكز نائب الشام. ومات وليس له نائب بديار مصر ولا وزير ولا حاجب متصرّف سوى أن برسبغا الحاجب تحكم في متعلقات أمور الإقطاعات وليس معه عصا الحجوبية وبدر الدين بكتاش نقيب الجيوش وأقبغا عبد الواحد أستادار السلطان ومقدّم المماليك وبيبرس الأحمديّ أميرجاندار ونجم الدين أيوب والي القاهرة وجمال الدين حمال الكفاه ناظر الجيوش والموفق ناظر الدولة وصارم الدين أزبك شادّ الدواوين وعز الدين عبد العزيز بن جماعة قاضي القضاة بديار مصر ونائب دمشق الأمير ألطنبغا ونائب الأميرطشتمر حمص أخضر ونائب طرابلس الحاج أرقطاي ونائب صفد الأمير أصلم ونائب غزة الأميرآق سنقر السلاريّ وصاحب حماه الملك الأفضل ناصر الدين محمد بن المؤيد إسماعيل. والأمراء مقدّموا الألوف بديار مصر يوم وفاته خمسة وعشرون أميرًا. وهم: بدر الدين جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وبيبرس الأحمديّ وعلم الدين سنجر الجاوليّ وسيف الدين كوكاي ونجم الدين محمود وزير بغداد هؤلاء برّانية كبار والباقي مماليكه وخواصه وهم: ولده الأمير أبو بكر والأمير قوصون والأمير بشتاك وطقزدمر وأقبغا عبد الواحد الأستادار وأيدغمش أميراخور وقطلوبغا الفخريّ ويلبغا اليحياويّ وملكتمر الحجازيّ وألطنبغا الماردانيّ وبهادر الناصريّ وآق سنقر الناصريّ وقماري الكبير وقماري أميرشكار وطرغاي وأرتبغا أميرجاندار وبرسيغا الحاجب وبلدغي ابن العجوز أمير سلاح وبيغرا. وكان السلطان أبيض اللون قد وخطه الشيب وفي عينيه حول وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانًا وتؤلمه وكان لا يكاد يمس بها الأرض ولا يمشي إلاّ متكئًا على أحد ومتوكئًا على شيء ولا يصل إلى الأرض إلاّ أطراف أصابعه وكان شديد البأس جيد الرأي يتولى الأمور بنفسه ويجود لخواصه وكان مهابًا عند أهل مملكته بحيث أنّ الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر كلمة واحدة ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفًا منه ولا يمكن واحدًا منهم أن يذهب إلى بيت أحد البتة لا في وليمة ولا غيرها فإن فعل أحد منهم شيئًا من ذلك قبض عليه وأخرجه من يومه منفيًا وكان مسدّدًا عارفًا بأمور رعيته وأحوال مملكته وأبطل نيابة السلطنة من ديار مصر من سنة سبع وعشرين وسبعمائة وأبطل الوزارة وصار يتحدّث بنفسه في الجليل من الأمور والحقير ويستجلب خاطر كل أحد من صغير وكبير لا سيما حواشيه فلذلك عظمت حاشية المملكة وأتباع السلطنة وتخوّلوا في النعم الجزيلة حتى الخولة والكلابزية والأسرى من الأرمن والفرنج وأعطى البازدارية الأخباز في الحلقة فمنهم من كان إقطاعه الألف دينار في السنة وزوّج عدة منهم بجواريه وأفنى خلقًا كثيرًا من الأمراء بلغ عددهم نحو المائتي أمير وكان إذا كبر أحد من أمرائه قبض عليه وسلبه نعمته وأقام بدله صغيرًا من مماليكه إلى أن يكبر فيمسكه ويقيم غيره ليأمن بذلك شرّهم. وكان كثير التخيل حازمًا حتى أنه إذا تخيل من ابنه قتله وفي اَخر أيامه شره في جمع المال فصادر كثيرًا من الدواوين والولاة وغيرهم ورمى البضائع على التجار حتى خاف كل من له مال وكان مخادعًا كثير الحيل لا يقف عند قول ولا يوف بعهد ولا يبرّ في يمين وكان محبًا للعمارة عمر عدّة أماكن منها: جامع قلعة الجبل وهدمه مرّتين وعمر القصر الأبلق بالقلعة ومعظم الأماكن التي بالقلعة وعمر المجرى الذي ينقل الماء عليه من بحر النيل إلى القلعة على السور وعمر الميدان تحت القلعة ومناظر الميدان على النيل وعمر قناطر السباع على الخليج ومناظر سرياقوس والخانقاه بسرياقوس وحفر الخليج الناصريّ بظاهر القاهرة وعمر الجامع الجديد على شاطيء النيل بظاهر مصر وجدّد جامع الفيلة الذي بالرصد والمدرسة الناصرية بين القصرين من القاهرة وغير ذلك مما يرد في موضعه من هذا الكتاب وما زال يعمر منذ عاد إلى ولاية الملك في المرّة الثالثة إلى أن مات وبلغ مصروف العمارة في كل يوم من أيامه سبعة اَلاف درهم فضة عنها ثلاثمائة وخمسون دينارًا سوى من يسخره من المقيدين وغيرهم في عمل ما يعمره وحفر عدة من الخلجانات والترع وأقام الجسور بالبلاد حتى أنه كان ينصرف من الأخباز على ذلك ربع متحصل الإقطاعات وحفر خليج الإسكندرية وبحر المحلة مرّتين وبحر اللبينيّ بالجيزة وعمل جسر شيبين وعمل جسر أحباس بالشرقية والقليوبية مدة ثلاث سنين متوالية فلم ينجع فأنشأه بنيانًا بالطوب والجير وأنفق فيه أموالًا عظيمة وراك ديار مصر وبلاد الشام وعرض الجيش بعد حضوره في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وقطع ثمانمائة من الجند ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديًا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وقطع ثمانمائة من الجند ثم قطع في مرّة أخرى ثلاثة وأربعين جنديًا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ثم قطع خمسة وستين أيضًا في رمضان سنة إحدى وأربعين وسبعمائة قبل وفاته بشهرين. وفتح من البلاد جزيرة أرواد في سنة اثنين وسبعمائة وفتح ملطية في سنة خمس عشرة وسبعمائة وفتح أناس في ربيع الأوّل سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وخرّبها ثم عمرها الأرمن فأرسل إليها جيشًا فأخذها ومعها عدّة بلاد من بلاد الأرمن في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وأقام بها نائبًا من أمراء حلب وعمر قلعة جعبر بعد أن دثرت وضربت السكة باسمه في شوّال سنة إحدى وأربعين وسبعمائة قبل موته تولى ذلك الشيخ حسن بن حسين بحضور الأمير شهاب الدين أحمد قريب السلطان وقد توجه من مصر بهذا السبب وخطب له أيضًا في أرتنا ببلاد الروم وضربت السكة باسمه وكذلك بلاد ابن قرمان وجبال الأكراد وكثير من بلاد الشرق وكان من الذكاء المفرط على جانب عظيم يعرف مماليك أبيه ومماليك الأمراء بأسمائهم ووقائعهم وله معرفة تامّة بالخيل وقيمها مع الحشمة والسيادة لم يُعرف عنه قط أنه شتم أحدًا من خلق الله ولا سفه عليه ولا كلمه بكلمة سيئة وكان يدعو الأمراء أرباب الأشغال بألقابهم وكانت همته علية وسياسته جيدة وحرمته عظيمة إلى الغاية ومعرفته بمهادنة الملوك لا مرمى وراءها يبذل في ذلك من الأموال ما لا يوصف كثرة فكان كتابه ينفذ أمره في سائر أقطار الأرض كلها وهو مع ما ذكرنا مؤيد في كلّ أموره مظفر في جميع أحواله مسعود في سائر حركاته ما عانده أحد أو أضمر له سوأ إلاّ وندم على ذلك أو هلك واشتهر في حياته بديار مصر أنه إن وقعت قطرة من دمه على الأرض لا يطلع نيل مصر مدة سبع سنين فمتعه الله من الدنيا بالسعادة العظيمة في المدة الطويلة مع كثرة الطمأنينة والأمن وسعة الأموال واقتنى كلّ حسن ومستحسن من الخيل والغلمان والجواري وساعده الوقت في كلّ ما يحب ويختار إلى أن أتاه الموت. الجامع بالمشهد النفيسيّ قال ابن المتوّج: هذا الجامع أمر بإنشائه الملك الناصر محمد بن قلاون فعمر في شهور سنة أربع عشرة وسبعمائة وولى خطابته علاء الدين محمد بن نصر اللّه بن الجوهريّ شاهد الخزانة السلطانية وأوّل خطبته فيه يوم الجمعة ثامن صفر من السنة المذكورة وحضر أمير المؤمنين المستكفي بالله أبو الربيع سليمان وولده وابن عمه والأمير كهرداش متولي شدّ العمائر السلطانية وعمارة هذا الجامع ورواقاته والفسقية المستجدّة وقيل أن جميع المصروف على هذا الجامع من حاصل المشهد النفيسي وما يدخل إليه من النذور ومن الفتوح. جامع الأمير حسين هذا الجامع كان موضعه بستانًا بجوار غيظ العدة أنشأه الأمير حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن حيدر بك مشرف الرومي قدم مع أبيه من بلاد الروم إلى ديار مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة وتخصص بالأمير حسام الدين لاجين المنصوريّ قبل سلطنته فكانت له منه مكانة مكينة وصار أمير شكار وكان فيه برّ وله صدقة وعنده تفقد لأصحابه وأنشأ أيضًا القنطرة المعروفة بقنطرة الأمير حسين على خليج القاهرة وفتح الخوخة في سور القاهرة بجوار الوزيرية وجرى عليه من أجل فتحها ما قد ذكر عند ذكرها في الخوخ من هذا الكاتب وتوفي في سابع المحرّم سنة تسع وعشرين وسبعمائة ودفن بهذا الجامع. جامع الماس هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة بناه الأمير سيف الدين الماس الحاجب وكمل في سنة ثلاثين وسبعمائة وكان الماس هذا أحد مماليك السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون فرقاه إلى أن صار من أكبر الأمراء ولما أخرج الأمير أرغون إلى نيابة حلب وبقي منصب النيابة شاغرًا عظمت منزلة الماس وصار في منزلة النيابة إلاّ أنه لم يسم بالنائب ويركب الأمراء الأكابر والأصاغر في خدمته ويجلس في باب القلة من قلعة الجبل في منزلة النائب والحجاب وقوف بين يديه وما برح على ذلك حتى توجه السلطان إلى الحجاز في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة فتركه في القلعة هو والأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك والأمير أقبغا عبد الواحد والأمير طشتمر حمص أخضر هؤلاء الأربعة لا غير وبقية الأمراء إما معله في الحجاز وإما في إقطاعاتهم وأمرهم أن لا يدخلوا القاهرة حتى يحضر من الحجاز فلما قدم من الحجاز نقم عليه وأمسكه في صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وكان لغضب السلطان عليه أسباب منها أنه لما أقام في غيبة السلطان بالقلعة كان يراسل الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك ويوادده وبدت منه في مدّة الغيبة أمور فاحشة من معاشرة الشباب ومن كلام في حق السلطان فوشى به أقبغا وكان مع ذلك قد كثر ماله وزادت سعادته فهوى شابًا من أبناء الحسينية يًعرف بعمير وكان ينزل إليه ويجمع الاويراتية ويحضر الشباب ويشرب فحرّك ذلك عليه ما كان ساكنًا. ويقال أن السلطان لما مات الأمير بكتمر السْاقي وجد في تركته جزدان فيه جواب الماس إلى بكتمر الساقي انني حافظ القلعة إلى أن يرد علي منك ما أعتمده. فلما وقف السلطان على ذلك أمر النشو بن هلال الدولة وشاهد الخزانة بإيقاع الحوطة على موجوده فوجدا له ستمائة ألف درهم فضة ومائة ألف درهم فلوسا وأربعة آلاف دينار ذهبًا وثلاثين حياصة ذهبًا كاملة بكفتياتها وخلعها وجواهر وتحفًا وأقام الماس عند أقبغا عبد الوحد ثلاثة أيام وقتل خنقًا بمحبسه في الثاني عشر من صفر سنة أربعة وثلاثين وسبعمائه وحمل من القلعة إلى جامعه فدفن به وأخذ جميع ما كان في داره من الرخام فقلع منها وكان رخامًا فاخرًا إلى الغاية وكان أسمر طوالًا غتميًا لا يفهم شيئًا بالعربيّ ساذجًا يجلس في بيته فوق لباد على ما اعتماده وبهذا الجامع رخام كثير نقّله من جزائر البحر وبلاد الشام والروم. هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة ابتدأ عمارته الأمير قوصون في سنة ثلاثين وسبعمائهّ وكان موضعه دارًا بجوار حارة المصامدة من جانبها الغربيّ تُعرف بدار أقوش نميله ثم عُرفت بدار الأمير جمال الدين قتال السبع الموصليّ فأخذها من ولده وهدمها وتولى بناءه شادّ العمائر واستعمل فيه الأسرى كان قد حضر من بلاد توريز بناء فبنى مئذنتي هذا الجامع على مثالث المئذنة التي عملها خواجا علي شاه وزير السلطان أبي سعيد في جامعه بمدينة توريز وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثلاثين وسبعمائة وخطب يومئذ قاضي القضاة جلال الدين القزويني بحضور السلطان ولما انقضت صلاة الجمعة أركبه الملك الناصر بغلة بخلعة سنية ثم منعه السلطان الملك الناصر أن يستقرّ في خطابته فولى فخر الدين شكر. قوصون: الأمير الكبير سيف الدين حضر من بلاد بركة إلى مصر صحبة خوند ابنة أزبك امرأة الملك الناصر محمد بن قلاوون في ثالث عشري ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة ومعه قليل عصيّ وطسما ونحو ذلك مما قيمته خمسمائة درهم ليتجر فيه فطاف بذلك في أسواق القاهرة وتحت القلعة وفي داخل قلعة الجبل فاتفق. في بعض الأيام أنه دخل إلى الإسطبل السلطاني ليبيع ما معه فأحبه بعض الأوشاقية وكان صبيًا جميلًا طويلًا له من العمر ما يقارب الثماني عشرة سنة فصار يتردّد إلى الأوشاقيّ إلى أن رآه السلطان فوقع منه بموقع فسأل عنه فعرف بأنه يحضر لبيع ما معه وأن بعض الأوشاقية تولع به فأمر بإحضاره إليه وابتاع منه نفسه ليصير من جملة المماليك السلطانية فنزله من جملة السقاة وشغف به وأحبه حبًا كثيرًا فأسلمه للأمير بكتمر الساقي و جعله أمير عشرة ثم أعطاه أمرة طبلخاناه ثم جعله أمير مائة مقدم ألف ورقاه حتى بلغه أعلى المراتب فأرسل إلى البلاد وأحضر إخوته سوسون وغيره من أقاربه وأمر الجميع واختص به السلطان بحيث لم ينل أحد عنده ما ناله وزوجه بابنته وتزوج السلطان أخته فلما احتضر السلطان جعله وصيًا على أولاده وعهد لابنه أبي بكر فأقيم في الملك من بعده وأخذ قوصون في أسباب السلطنة وخلع أبا بكر المنصور بعد شهرين وأخرج إلى مدينة قوص ببلاد الصعيد ثم قتله وأقام كجك ابنا السلطان و له من العمر خمس سنين ولقبه بالملك الأشرف وتقلد نيابة السلطنة بديار مصر فأمر من حاشيته وأقاربه ستين أميرًا وأكثر من العطاء وبذل الأموال والأنعام فصار أمر الدولة كله بيده هذا وأحمد بن السلطان الملك الناصر مقيم بمدينة الكرك فخافه قوصون وأخذ في التدبير عليه فلم يتم له ما أراد من ذلك وحرّك على نفسه ما كان ساكنًا فطلب أحمد الملك لنفسه وكاتب الأمراء والنوّاب بالمملكة الشامية والمصرية فأذعنوا إليه وكان بمصر من الأمراء الأمير أيدغمش والأمير آل ملك وقماري والماردانيّ وغيرهم فتخيل قوصون منهم وأخذ في أسباب القبض عليهم فعلموا بذلك وخافوا الفوت فركبوا لحربه وحصروه بقلعة الجبل حتى قبضوا عليه في ليلة الأربعاء آخر شهر رجب سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة ونهبت داره وسائر دور حواشيه وأسبابه وحمل إلى الإسكندرية صحبة الأمير قبلاي فقتل بها وكان كريمًا يفرّق في كل سنة للأضحية ألف رأس غنمًا وثلاثمائة بقرة ويفرّق ثلاثين حياصة ذهبًا ويفرّق كلّ سنة عدّة أملاك فيها ما يبلغ ثمنه ثلاثين ألف درهم وله من الآثار بديار مصر سوى هذا الجامع الخانقاه بباب القرافة والجامع تجاهها وداره التي بالرميلة تحت القّلعة تجاه باب السلسلة وحكر قوصون. جامع الماردانيّ هذا الجامع بجوار خط التبانة خارج باب زويلة كان مكانه أوّلًا مقابر أهل القاهرة ثم عمر أماكن. فلما كان في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة أخذت الأماكن من أربابها وتولى شراءها النشو. فلم ينصف في أثمانها وهدمت وبني مكانها هذا الجامع فبلغ مصروفه زيادة على ثلاثمائة ألف درهم عنها نحو خمسة عشر ألف دينار سوى ما حمل إليه من الأخشاب والرخام وغيره من جهة السلطنة وأخذ ما كان في جامع راشدة من العمد فعملت فيه وجاء من أحسن الجوامع وأوّل خطبة أقيمت فيه يوم الجمعة رابع عشري رمضان سنة أربعين وسبعمائْة وخطب فيه الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبريّ ولم يتناول معلومًا. ألطنبغا الماردانيّ الساقي: أمّره الملك الناصر محمد بن قلاون وقدّمه وزوّجه ابنته فلما مات السلطان وتلوى بعده ابنه الملك المنصور أبو بكر ذكر أنه وشى بأمره إلى الأمير قوصون وقال: قد عزم على إمساكك. فتحيل قوصون وخلع أبا بكر وقتله بقوص هذا مع أن الطنبغا كان فد عظم عند المنصور أكثر مما كان عند أبيه فلما أقيم الأشرف كجك وماج الناس وحضر الأمير قطلوبغا من الشام وشغب الأمراء على قوصون كان ألطبغا أصل ذلك كله ثم نزل إلى الأمير أيدغمش أمير أخور واتفق معه على أن يقبضَ على قوصون وطلع إلى قوصون وشاغله وخذله عن الحركة طول الليل والأمراء الكبار المشايخ عنده وما زال يساهره حتى نام وكان من قيالم الأمراء وركوبهم عليه ما كان إلى أن أمسك وأخرج إلى الإسكندرية ولما قدم ألطنبغا نائب الشام وأقام تقدّم الماردانيّ وقبض على سيفه ولم يجسر غيره على ذلك فقويت بهذه الحركان نفسه وصار يقف فوق التمرتاشيّ وهو اغاته فشق ذلك عليه وكتم في نفسه إلى أن ملك الصالح إسماعيل فتمكن حينئذّ التمرتاشيّ وصار الأمر له وعمل على المارداني فلم يشعر بنفسه إلا وقد أخرج على خمسة أرؤس من خيل البريد إلى نيابة حماه في شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وأربعين فسار إليها وبقي فيها نحو شهرين إلى أن مات ايدغمش نائب الشام ونقل طقزدمر من نيابة حلب إلى نيابة دمشق فنقل الماردانيّ من نيابة حماه إلى نيابة حلب وسار إليها في أوّل رجب من السنة المذكورة وجاء الأمير يلبغا اليحياويّ إلى نيابة حماه فأقام الماردانيّ يسيرًا في حلب ومرض ومات مستهلّ صفر سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكان شابًا طويلًا رقيقًا حلو الصورة لطيفًا معشق الخطرة كريمًا صائب الحدس عاقلًا. جامع أصلم هذا الجامع داخل الباب المحروق أنشأه الأمير بهاء الدين أصلم السلاحدار في سنةست وأربعين وسبعمائة. أصلم: أحد مماليك الملك المنصور قلاون الألفيّ فلما فرقت المماليك السلطنية في نيابة كتبغا بعد قتل الملك الأشرف خليل بن قلاون وسلطنة الناصر محمد بن قلاون كان أصلم من نصيب الأمير سيف الدين أقوش المنصوريّ ثم انتقل إلى الأمير سلار فلما حضر الملك الناصر محمد من الكرك بعد سلطنة بيبرس الجاشنكير خرج إليه أصلم بمنجا الملك وبشره بهروب بيبرس فأنعم عليه بأمرة عشرة ثم تنقل إلى أن صار أمير مائة مقدّم ألف وخرج في التجريدة إلى اليمن فلما عاد اعتقله السلطان خمس سنين لكلام نقل عنه ثم أخرجه وأعاده إلى منزلته ثم جهزه لنيابة صفد ومات الناصر وأصلم بصفد فخرج الأمير قوصون مع الطنبغا نائب الشام إلى حلب لإمساك طشتمر فسار إلى قاري ثم رجع وانضمّ إلى الفخريّ وأقام عنده على خان لاجين وتوجه معه صحبة عساكر الشام إلى مصر فرسم له الملك الناصر أحمد بن محمد بن قلاون بامرة مائة في مصر على عادته وكان أحد المشايخ ويجلس رأس الحلقة ويجيد رمي النشاب مع سلامة صدر وخير إلى أن مات في يوم السبت عاشر شعبان سنة سبع وأربعين وسبعمائة ونشأ بجوار هذا الجامع دارًا سنية وحوض ماء للسبيل وبهذا الجامع درس وله أوقاف وهو من أحسن الجوامع. جامع بشتاك هذا الجامع خارج القاهرة بخط قبو الكرماني على بركة الفيل عمره الأمير بشتاك فكمل في شعبان سنة ست وثلاثين وسبعمائة وخطب فيه تاج الدين عبد الرحيم بن قاضي القضاة جلال الدين القزويني في يوم الجمعة سابع عشرة وعمر تجاهه خانقاه على الخليج الكبير ونصب بينهما ساباطًا يتوصل به من أحدهما إلى الآخر وكان هذا الخط يسكنه جماعة من الفرنج والأقباط ويرتكبون من القبائح ما يليق بهم فلما عمر هذا الجامع وأعلن فيه بالأذان إقامة الصلوات اشمأزت قلوبهم لذلك وتحوّلوا من هذا الخط وهو من أبهج الجوامع وأحسنها رخامًا أنزهها. أدركناه إذا قويت زيادة ماء النيل فاضت بركة الفيل وغرّقته فيصير لجة ماء لكن منذ انحسر ماء النيل عن البلد إلى جهة الغرب بطل ذلك وله من الآثار سوى ذلك قصر بشتاك بين القصرين وقد تقدّم ذكره.
|